10 سبتمبر 2012

صاحبي الذي لا يمل | كريم محسن الخياط


بين يوم وآخر يوقظني صاحبي من نومي المستمر الذي أتوكأ عليه لأتخلص من همي المستمر الذي يجعلني ألعب الداما بحبوب الضغط والسكري، يوقظني صاحبي حاملا موبايلاً عاطلاً في كل مرة. وبدون مقدمات يبدأ بسرد سبب عطل موبايله مدعاياً أنه سقط منه في الحمام عندما حاول أن يجد قليلا من الماء ليغتسل، ويدعي دائما بأن الماء لا يزورهم سوى ساعتين في اليوم، وأنه يشفط الماء من الحنفية بفمه لكي يساعد الماطور الحرامي على سحب ما تبقى في أنبوب الماء الرئيس القادم من دجلة والفرات. (والمشكلة هي أن بيتنا بجانب النهر، (يعني إذا اشيل مدير المي واشمره برهاوة ايدي يوكَع بالشط) قال صاحبي هذه العبارة التي مهدت له أن يعزف السيمفونية العراقية السرمدية التي يبدأها صاحبي عادة بلعن المسؤولين عن الماء والكهرباء والبلدية ودائرة التقاعد العامة ومؤسسة الشهداء والبرلمانيين والحكومة وأبو الغاز وأبو المولد وأبو النفط وابو الأنترنيت والسوّاق وسيارة الزبالة وقناة الجزيرة والشرقية والعراقية والرافدين ووو.ويستمر باللعن بلذة تفوق أية لذة، ثم يزداد انفعاله وكأنه يستمع الى مقطوعة من كسارة البندق.
 وفي إحدى زياراته المعتادة لي، أخبرني بأن موبايله احترق بسبب عطل في الكهرباء، مدعيا بأنها غير مستقرة، وأن السبب في عدم استقرارها هو تصريحات حسين الشهرستاني التي جعلت العراقيين يمتلكون بيوتا على الشط ويغرفون متى ما شاؤوا، ويدعي صاحبي بأن كريم عفتان والشهرستاني أصدقاء، ويوميا يسهرون تحت الأضواء الساطعة والمكيفات تدكَ عليهم وعبالهم الكهرباء موجودة في كل العراق، ولا يعلمون أن نظام الكهرباء في العراق هو:( 5 ـ 40 ـ 15 )، وحين سألته عن هذه الأرقام؛ أخبرني بأن الكهرباء تأتي خمس دقائق ثم تذهب خمسة أخرى، وبعد ذلك تأتي لأربعين دقيقة ثم تنطفئ لأربعين دقيقة أخرى ثم تأتي لربع ساعة ثم تنطفئ لأربع ساعات. وبدون أن يعطيني مجالا لأخبره بأني أعلم ذلك؛ أكمل سرد همومه بانسيابية تشوبها نغمته العصبية المعتادة، فادعى بأن سبب عطل موبايله هو  تجار الموبايلات الذين يكلفون الشركات الصينية بصناعة أردأ أنواع الأجهزة لترتفع أرباحهم، وأن موظفي التقييس والسيطرة النوعية توظفوا وفقا للمحاصصة الطائفية، فالموظف السني يلغف من التاجر الشيعي، والموظف الشيعي يلغف من التاجر السني، والتجار سنة وشيعة يلغفون من العراقيين. وفي زيارة أخرى اتـهم صاحبي شركة زين مدعيا بأنها ترسل إليه يوميا حولي عشر رسائل إعلانية ( قشمرية) تحاول سحب رصيده بمسابقات هزيلة كل واحد يعرفها، وان الموبايل يتوقف عن الشحن عندما تصل رسالة في أثناء شحنه مما يؤدي إلى عطل الآي سي، وأن الشركة متفقة مع الحكومة على نهب العراقيين بدليل عدم تطوير شبكة الهاتف الأرضي لحد الآن. وقد أكد لي صاحبي بأنه أشترى لحد الآن حوالي حوالي سبعين موبايلا من مختلف الأنواع، وأنه يعرف كيف يستعمل كل أنواع الأجهزة، لذلك نصحته أن يفتح محلا لبيع وشراء الموبايلات لكي يستثمر خبرته، لكنه لم يلتزم بتلك النصيحة مدعيا بأنه لا يملك نقدا كافيا لفتح المحل،وقال لي بأنه يفكر بأن يرحل إلى البصرة ليعمل حمالا في صفوان، مدعيا أن البضائع التي تدخل إلى العراق عن طريق ميناء مبارك كثيرة جداً، والكويتيون يحبون الحماميل العراقيين ويريدون أن يقضوا على البطالة في العراق من خلال جعل أهل البصرة حماميل في صفوان، وأكمل صاحبي كلامه منتشيا قائلا:(تره الكويتيين حييل يحبون العراقيين)! وبعد فترة من الصمت الساخر اقترحتُ عليه أن يرشح نفسه للانتخابات البرلمانية القادمة لعله يصل إلى منصب وزير الاتصالات نظراً للخبرة الكافية التي امتلكها من خلال كثرة الأعطال، وللإمكانية بقاء المنصب شاغراً بعد استقالة الوزير لافتاً نظره إلى بعض الوزارات الشاغرة منذ ثلاث سنين، وأخبرته أن مشروع الكابل الضوئي وحده سوف يجعله من أغنى الأغنياء إذا أصبح وزيراً للاتصالات، وحتى إذا اعترض على المشروع بعض البرلمانيين ليضغطوا عليه- كوزير- ليشاركوه في الأرباح والرشاوى، فذلك سوف لن يقلل مما سوف يحصل عليه من أموال طائلة، وأخبرته بعدم وجود شيء مستحيل في العراق، فرغم أن صديقي خريج ابتدائية إلا انه يستطيع أن يضرب شهادة دكتوراه عند ألبو غانم أو مريدي، ويضرب سيرة ذاتية دسمه أعدها  له بنفسي، و ليس في الأمر أية خطورة فالعفو العام سيستمر في العراق وأول من يُـعفى عنهم هم المزورون، ثم سوف يتبعهم المرتشون ثم الفاسدون، وقلت لصاحبي ألم تستمع لمن يقول:(( فأما المزورون والمرتشون والفاسدون؛ فأولئلك لا حكم عليهم ولا هم يُسجنون، أولئك في آمان عند لغفهم وأولئك هم الغالبون، فظلوا بحسدكم ايها الشرفاء الفقراء المبغِضون)). وإذا اشتدت الأمور ولم يحصل صاحبي على العفو، فطريق سويسرا مفتوح ويستطيع مغادرة العراق محملا بالذهب الأخضر قبل أو أثناء أو بعد صدور قرار إلقاء القبض، الذي اشك بأنه سوف يصدر. فجاء رد صاحبي بعد صمت طويل:( لا، محد يخليني أصير وزير اتصالات، لأن آني مو بعثي)، وحين أخبرته بأن زمن البعث انتهى، ونحن اليوم في زمن التعددية الحزبية؛ قال بصوت ساخر:( كلهم بعثيه بس بغير اسماء، فكل حزب يجب أن يكتب في لوحة مقره:(حزب الحرية والديموقراطية، لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي)). ومع كل تلك المحاولات فقد ظل صاحبي مصرّاً على أن يبقى يعاني من أعطال الموبايلات، ولم يشرع في ضم نفسه إلى قائمة حزبية ليرشح نفسه لانتخابات المجالس البلدية القادمة، رغم إلحاحي عليه، وتصويري له دور النائب المحلي في الشفط، من خلال تأخير المشاريع إلى نهاية السنة للاستفادة من فوائد الميزانية المودعة في المصارف اللبنانية. وأخيراً طلبت منه أن يعمل تاجر أجهزة موبايلات حيث يقترض مبلغا من المصرف لإنشاء شركة، لكني أرشدته بأن يضع مبلغا من ماله الخاص في المصرف لشهر أو لشهرين؛ ليتأكد المصرف من أنه غني، لأن مصارفنا لا تقرض الفقراء، فهي موجودة لإقراض الأغنياء الذين يتمكنون من الهروب في الوقت المناسب. قد بدا على وجه صاحبي القبول بمقترحي عندما بدأ يحصي ممتلكاته، قائلا بأنه سوف يستلم سلفة المتقاعدين البالغة خمسة ملايين ديناراً، تلك السلفة التي وعدتـْـه بها الدولة قبل سنتين، لكن صاحبي ما زال يأمل أن تلتفت إليه الدولة وتـتـفـل عليه بهذا المبلغ، ثم انه سوف يستلم مبلغا يقدر بـ 400 ألف دينار منحة مع الوجبة التموينية فقد وعد البرلمان بأنه سيعطي لكل من أبنائه الستة وهو وزوجته خمسين ألف دينار كل سنة! ويتوقع صاحبي بان المبلغ سيصل قريبا لأنه مودع في أحد المصارف، وعندما أخبرته بعدم إمكانية توزيع هذه المبالغ قال لي: (لا يابه لا، روح شوف اللافتات شكد، كل حزب يكَول آني اقترحت هذا القرار والفضل يرجع إلي). ثم أخبرني بأنه سيحصل على مليون دينار نهاية السنة، وقبل أن أسأله عن مصدر المليون؛ أخبرني بأنه عمل فترة من الزمن بائعاً للجرائد ومن خلال علاقاته تمكن من الحصول على هوية نقابة الصحفيين، وسجلوا اسمه في قوائم الصحفين، بعد ذلك طلب مني أن أكتب له موضوعا صحفيا كل شهر لكي يتواصل مع المشهد الصحفي العراقي، خشية أن يقطعوا عنه المكافأة لعدم تواصله، وقد ألح صاحبي عليّ بأن يكون الموضوع حول الغش والتزوير المستشري في نقابة الصحفيين باعتباره صحفياً! لأن صاحبي يظن بأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع، وحين طلبت منه أن يتعلم مبادئ الصحافة لكي يصبح صحفيا حقيقيا في المستقبل، أخبرني بأن ابنه الصغير يقوم بافراغ الهواء من الكرة المطاطية التي يشتريها، لأن ابنه يعتقد بأن الطوبة الكبيرة تنفجر بسرعة، وحين تبسمت لكلامه لأن ابنتي تفعل ذلك، ظن صاحبي أني أسخر منه فأردف قائلا: (لعد هادي المهدي ليش انكتم؟).  وبعد ذكر مليون الصحافة الذي يُوزع كل نهاية سنة، بعد أن قيل بأنه سيوزع كل ثلاثة أشهر، استطرد صاحبي ليذكر لي بأنه يمتلك مبلغا ليس بالقليل كمكافأة نقدية لأبنائه الناجحين من قبل مؤسسة الشهداء التي وعدتْ قبل ثلاث سنوات أن تمنح الناجحين من عوائل الشهداء التي يدعي صاحبي بأنه ينتمي لها بصفته أخ لشهيد، وأخبرني صاحبي بانه قدم الفايلات عام 2009 وان المكافأة سوف تصل قريبا لادعاء المؤسسة بأن ليس كل الطلبة لهم مكافآت فهناك أسماء تسقط سهوا وأسماء تكون زائدة عن المبلغ المرصود للمكافأة، ثم أن أحد الموظفين أخبر صاحبي بأن أخوان الشهداء وأبناء أخوانهم  ليس لهم حق بالمكافآت لأنهم لم يشعروا بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في عهد النظام السابق!!
ثم سادت بيننا فترة صمت استغرق عدة ثوان، ثم قال لي صاحبي بنبرة حادة:


(آني اتعقـّـد من السياسة، شوفنـّـه غير موضوع)،



 فأجبته بأنه ضيفي وأن للضيف حقاً في اختيار الموضوع،



فقال بصوت هادئ جداً ومن دون سابق إنذار: (شنو رأيك لو أشتري كاتم)؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


نشرت في جريدة العراق اليوم: الإثنين 10/9/2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تخلف+ ديمقراطية=دكتاتورية | كريم محسن الخياط






عندما تكون البنية الاجتماعية غير جاهزة ثقافيا واجتماعيا وحضاريا لتقبل فكرة ما؛ ستكون تلك الفكرة عاجزة عن أداء وظيفتها التي كانت من أجلها، فحقيقة الديمقراطية هي: ليست حكم الأغلبية، وإنما هي: حكم الأغلبية الواعية. وحكم الأغلبية الواعية لا يأتي فجأة بل يجب أن تسبقه مراحل متدرجة يُبنى خلالها المجتمع على جميع الأصعدة بدرجة تؤهله لممارسة الديمقراطية، وبما أن من حكموا المجتمع العربي لم يؤمنوا بالتحول الديمقراطي، فقد مارسوا كل أنواع التجهيل على شعوبهم فغيبوا القوانين وأبدلوها بالعشيرة والمسجد، وكلنا يعرف ما لمضيف العشيرة من غلبة تفوق القانون وما لكثير من المساجد من دور في نشر ثقافة التجهيل عبر مكبرات الصوت التي تعد وسيلة الإعلام الوحيدة في كثير من المدن الصغيرة التي تمثل أغلبية الشعب. من هذا نجد الناخب لا يعرف شيئا عمن ينتخبه سوى ما تقوله العشيرة والمسجد، وما الأحزاب الكثيرة التي يعج بها العراق والوطن العربي إلا شكل خارجي يتعكزون عليه، فلو أحصينا كل أفراد الأحزاب  لوجدناهم لا يمثلون 1% من الناخبين. وتجربة الانتخابات المصرية تؤيد ذلك، فالمتابع للأصوات التي حصل عليها الرئيس مرسي في جولة الإعادة، تدل بشكل واضح أنها جاءت من المدن المتخلفة حضاريا والقرى والأرياف، وهذا يتضح من خلال الجداول التي عرضتها قنوات فضائية تتسم بالمهنية، حيث أوضحت تلك الجداول بان النسبة الأكبر التي جعلت مرسي يتفوق على أحمد شفيق كانت من المدن البعيدة عن الحضارة.
وينتج مما تقدم أن الحكم في البلدان المتخلفة سواءً كان دكتاتوريا أم ديمقراطيا أم عوان ما بين ذلك، ما هو إلا سيطرة البداوة على الحضارة، وهذا الأمر واضح من خلال جميع التجارب التي يمر بها الوطن العربي والبلدان المتخلفة، لذلك وقع الإسلاميون في مأزقهم، فعندما درسوا الفكر الديمقراطي المحرم عندهم وجدوه يخدمهم لأنهم يعرفون مدى جهل شعوبهم، لذلك قبلوه كمرحلة تمكنهم من ممارسة التجهيل أكثر فأكثر حتى يصلوا إلى مبتغاهم، وهو: صناعة دكتاتورية بزي ديمقراطي يمكّنهم من الهيمنة على العالم وتخريبه مرة أخرى. فالحضارات الكبيرة لا تدمرها غير الشعوب الهمجية، وتجارب العالم تثبت ذلك، فعندما ابتعد العرب عن التعصب الديني كوّنوا حضارة دمرها المغول، فوقع العرب بما كانوا قد قاموا به سابقا. ولست هنا بصدد النيل من الفكر الإسلامي أو غيره، فلكلٍ حقٌ في اختيار معتقده، وكلٌ يعمل على شاكته. ولكني أريد الحث على عبادة الله بوعي لا بجهالة، وهذا الطرح لا يروق لمن يريدون عكس ذلك، لأنهم لم ولن يتمكنوا من الفوز بأي انتخابات إذا كان الشعب واعيا، وهذا ينطبق على كل الذين يدعون بأنهم قادة دينيين سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين.
فما الحل؟ هل نرفض الديمقراطية بكل ما فيها أم نقبلها بكل ما فيها؟ فمن باب التفاؤل أقول: علينا أن نقبلها وأن نقاوم الجهل والتجهيل وهذا الدور الخطير لا تقوم به السلطة الحاكمة سواء كانت ديمقراطية أم غير ديمقراطية؛ لأننا عرفنا دورها التخريبي والتجهيلي، بل يقوم به الإعلامي المثقف الحقيقي، والمثقف الحقيقي، والأديب الحقيقي، ومنظمات المجتمع المدني التي يتوجب عليها أن تسعى بجد إلى توعية الشعوب بحقوقها وتخليصها من الواقع المفروض عليهم اجتماعيا وعقائديا، ولا تأتي ثمار هذا العمل على المدى القريب، بل يحتاج لعشرات السنين، فالمشاريع الإستراتيجية تحتاج إلى وقت وصبر وشعور بالمسؤولية ومؤسسات مدنية مدعومة من قبل من يهمه الأمر فعلاً، لذلك يتوجب علينا أن لا نيأس ولا نسخر من بعض الندوات البائسة التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية لرداءة الطرح، ولشعور القائم على الندوة والذي يحضرها بلا جدوى النشاط المجتمعي غير الحكومي، فكثير منا يعرف أن أغلب المنظمات غير الحكومية في العراق هي: منظمات رؤساء فقط، فلا دخل للهيئة الإدارية ولا دخل للهيئة العامة بعمل أغلب المنظمات، بل هناك  مجموعة من الرؤساء يلتقون بعضهم ليتدارسوا كيفية توفير الجزء الأكبر من المبالغ التي تدفعها الجهات المانحة لتلك النشاطات. ولا حديث لهم سوى ذلك، مثلهم مثل الأدباء الذين يدعَون إلى المهرجانات الكبيرة حيث يتحدثون كن كل الأشياء إلا الأدب. ولأن منظماتنا: منظمات رؤساء؛ فقد عمد الرؤساء إلى تشكيل شبكات: كل شبكة تتألف من عدة منظمات لتكون الهيئة الإدارية للشبكة مجموعة من الرؤساء، فيعمل على أنه عضو هيئة إدارية في الشبكة، ويلقب برئيس منظمة، علما أن تلك الشبكات تدّعي أن هيأتها العامة تضم كل الهيئات العامة لمنظماتها، وكما ذكرنا بان تلك الهيئات العامة هي عبارة عن أسماء فقط يدفعون مبلغا من المال سنويا ثمنا لباج يتشدقون به في الوقت المناسب. وليس غريبا أن تكون الجهات المانحة مطلعة على كل ما يجري، فحينما تحدثت مع أحد منسقي الشرق الأوسط عن هذا الموضوع أجابني بكل صراحة بأنه يعلم ذلك، كما أخبرني بأن أغلب المنظمات في العراق وهمية، وأن المنظمات غير الوهمية ليس فيها إلا الرئيس وربما نائبه. وعدم الغرابة هذا يكمن في أن طموح الجهات المانحة هو أن يعمل في كل منظمة ثلاثة ناشطين حقيقيين على مدى السنوات الخمس القادمة. وقال بأنه يعرف أن أغلب المال الممنوح لتلك المنظمات يذهب بالاتجاه غير الصحيح، فقد كان طموحه أن تُصرف 5% من المنحة في الاتجاه الصحيح. وبهذه النسبة الضئيلة تسعى الجهات المانحة إلى وضع لبنه في بناء مجتمع يتجه إلى الوعي تدريجيا.   

دندنات في الطريق الى الذات | كريم محسن الخياط



كان صديقي يجلس في مقدمة السيارة التي تحاول اختزال الزمن للوصول الى مرفأ لم يكن يحمل هذا المعنى قبل سنة من ذلك التأريخ، لكن المعاناة جعلت من صديقي يعده فردوسه المفقود. كانت حركة رأسه تتناغم مع اهتزاز السيارة حين عادت به ذاكرته الى الأيام التي سبقت هذه المغامرة. تلك الأيام التي قضاها شبه مشرد بين فنادق بغدادية بائسة  تضج برائحة الثوم وصابون الحصة التموينية وبين الفلوجة التي يعدها ملاذا شبه آمن وهي تنام هادئة على جرف الفرات، وبين بعض زوايا بغداد التي لم تعد مخبأ له، باحثا عن لحظة هادئة يتأمل فيها المستقبل وما يخفيه له. أحيانا يريح جسده على احد كراسي سينما سميراميس ليشم نسيما باردا ممزوجا برائحة لا يتذكرها، فيغفو كبقية الأدباء الذين ما فتئوا يمارسون النوم في الأماكن المزدحمة. ويكاد أيلول عام 1999  يفتك بصديقي لولا أنه كان يحتمي بدندنات تطارده، مخترقة جدار ذاكرته شبه العارية، مناجيا الندى الذي يكاد تذكره يفكك روحه و يشظي معانيه التي تحاول اقتناص لحظة آمنة بين جدوى الحلم وقسوة الماضي:

(أيلول عاد فهلا كنتِ أيلـــــولا
يا آخر الحب يا تفاحتي الأولى)

كانت قصيدة أيلول آخر قصيدة له قبل رحيله عن معناه، لكنه أضاف لها مقطعين قديمين ليقول إنه ما زال مرتبطا بتاريخه، بماضيه، بذكرياته. كان يتجول كثيرا في أزقة بغداد الضيقة التي تشعره بشيء من الطمأنينة؛  ليمسح ذاكرته المرتبكة بعطر أنفاس أماكن سيتركها ويترك معتقله الكبير الذي قال فيه ذات مساء :

(ويا بيتنا: كل الجهات خيانـــــة
إذا بات وجهي عند بابك مهمـلا

وهل ثم سقف تحت ضوئك ندعي
بأن ّ لنا في ما يـُؤمل مأمــــــلا ؟)

لم تكن تلك لحظات يمكن معها اتخاذ قرار بلا غضب، ولم تكن المقارنة متكافئة بين الرحيل والبقاء، لكن الحب الكامن في نفسه لبغداد كان يجره من حلمه المتدلي على أرصفة اليأس ويدكّه في إسفلت شوارع الرهبة التي مازالت تدعي أنها حبيبته التي لا تغادر حتى لو أمكنها ذلك. وحين تمكن من تخليص حلمه من مخلب الإسفلت؛ اتخذ قراره، فلطالما :

( سعى بين ليلى والرسوم فلم يجد
لليلى التي خلف الرسوم تـــــمثلا

فقال هنا قلبي وتلك قطيعتـــــي
و ذيّاك ظلي كم بدا مترهــــــلا )

أوشك ان يقتنع بالرحيل، لكن طيفا  مازال يجذّر قدميه في الأرض، يحدثه عن اصدقائه و أهوائه حديثا  كاد  يقلب كل معادلاته ويبقيه خارج الفكرة التي تمالكته، وكاد يجزم بأنه قرار لا رجعة فيه. فانتظر الوعد المقطوع بينه وبين الصبح، وظل ينتظر لأيام، لكن الصبح لم يعد، وحين لم ير ذلك الضوء الموعود في أحد دهاليز أنفاقه المتشابكة؛ راودته صرخة مكتومة:

(وحدي احتملتكَ قلتَ الصبح موعدنا
وجئتُ صبحكَ لم أبصرْ به أحـــــــدا )

حزم ذكرياته، فقد كذب الموعد، ولم يبصر صباحات مدنه النائمة على نكبتها الأولى رغم تجذّر الألم الذي كان رفيقا تعودت عليه أكواخ قاعة حوار، وكرويتات حسن عجمي المتأرجحة، وشاي أبي داود العتيق، وكتب صباح جبرائيل المهترئة، وأعمدة شارع الرشيد، ودهاليز منتدى المسرح، وجسر الشهداء الذي يشير الى جواد الحطاب، وسدرة أبي نؤاس الحانية على أحمد المانع، وأرصفة شارع السعدون، وكراسي سينما سميراميس،  وفخاخ حديقة اتحاد الأدباء. تلك الذكريات التي تمتد مع جرف دجلة الذي:

(كان يبكي وليس يدري لماذا
ويغني ولا يحس التـــــــــذاذا

وينادي يا ذاك.. يصغي لهــذا
وهو ذاك الذي ينادي وهــــذا

لا يعي من دعا، ولا من يلبي
كان في صوته يلاقي مـــلاذا)

ومثل ذلك البصير البائس الذي أتعبه وطن قيل عنه انه سعيد حينما رنا إلى أغرب القرارات؛ قضى صديقي عشرين يوما من التأمل والحزن الذي نبتت له مخالب كادت تنهش شاعريته وتبعثره على ارصفة البقاء، كما تبعثر البردوني على متاهات القصائد الناتئة في سفن بثقوب ليست كبيرة، فأراد أن ينهار طوعا لينقذ نفسه من ترقب الانهيار، لكنه لم يشرب حليب غباره، فقد رتب بعض أوراقه وبعض ذكرياته وحزم رأيه ودندن:
(أن أتبعثر على أرصفة المنفى، أفضل لي من أن أتبعثر على أرصفة أعرفها، أعشقها،  أحلم بدفئها ذات يوم،  قال لنفسه وفقد تركيزه.
عندما اقتربت المغامرة من اجتياز مرحلتها الاولى  وبدت له سفوح أيام مجهولة جديدة تحط على سفوح جبال السليمانية، التفت إلى الخلف خوفا  و رهبة، و بصوت يقترب كثيرا من الانين كان صديقي يدندن بحزن بنفسجي :

رحيلك عن معناك قتل مؤولٌ
أعنّي على أن لا أراه مـــؤولا 

رحيلك عن معناك قتل مؤولٌ
أعنّي على. 

ـ (دكتور حامد) ؟! ناداه السائق وهو يقف قرب مكان يبدو رصيفا
ـ (ها، وصلنه) , قال حامد الراوي  وهو يهم بالنزول، أو ربما ينزل بالهموم. فقد كانت الطرق محدبة ومتشعبة قد يؤدي بعضها الى بعضها الآخر. نزل من السيارة وهو يدندن بحزن ملون:

مشى في سهاد الوقت عمرا معطلا
ومـــــسَّ نهاراً آمناً......فتغــــــزلا

وعند حدود اللون آوى فراشــــــهً
وأنبت في ثغر الوشايات جــــدولا

درى أن ّ عمر الحب عمرٌ معجلٌ
سيـُطوى غداً أو بعدهُ ...فتعجـــلا.


Sal_am_74@yahoo.com


بين البلاغة والأسلوبية | كريم محسن الخياط




الأسلوب هو طريقة في الكتابة تتماهى إلى حد كبير مع فن البلاغة. سواء كانت هذه الطريقة لكاتب معين أو لجنس من الأجناس أو لعصر من العصور. أي أن الأسلوب هو فن البلاغة الحديث الذي ظهر في القرن الثامن عشر الميلادي تحت عنوان: الأسلوبية. وقد تحول هذا الفن تدريجيا من طريقة في الكتابة إلى طريقة في الكتابة والنقد. حيث استعمل نوفاليس هذا المصطلح ( الأسلوبية) لأول مرة. علما ان نوفاليس قد أشكل عليه التفريق بين البلاغة والاسلوبية وكذلك أشكل التفريق على هيلانغ و فورسيستر  من بعده.
أما رائد الأسلوبية الشهير ( بيرجيرو) فقد عرف الأسلوبية بانها( طريقة في التعبير عن الفكر بواسطة اللغة) وهذا التعريف مقبول عالميا رغم بساطته الواضحة، إلا أن هذه البساطة تخفي وراءها تعقيدات كثيرة، فإذا أردنا أن نتناول مفردات التعريف: ( طريقة ، تعبير ، فكر ، لغة) سنجد أن كل مفردة بها حاجة للتفسير. فكلمة (طريقة) غامضة لوجود طرائق كثيرة للتعبير، ولا تقل كلمة (تعبير) غموضا عن سابقتها، فهل التعبير هو الإنشاء المتعارف عليه؟ أم هو شيء جديد يختلف عنه؟ اما كلمة ( فكر) فهي غامضة وفضفاضة تتسع لكثير من الاحتمالات، منها الفكر الفردي (فكر المبدع) ومنها الفكر الجمعي المحلي (فكر المجتمع المحلي)  ومنها الفكر الجمعي العالمي الذي حاول همنغواي كثيراً إيصاله من خلال كثير من رواياته. وهل اللغة المقصودة في التعريف هي اللغة التواصلية البسيطة؟ أم اللغة الثائرة على قواعد النحو(اللغة البلاغية)؟ و هل هذه اللغة مخلوقة من قبل الإنسان كما يرى كثير من النقاد غير الأسلوبيين؟ أم خالقة له كما يرى بروجيرو في مدخل كتاب الأسلوبية؟ فقد تحولت اللغة من أداة للكتابة إلى عامل مبدع للكتابة، من مخلوق إبداعي إلى خالق للإبداع. كما تحول الإنسان من خالق للغة إلى مخلوق من قبلها، وذلك من خلال جدلية الدرس بين الإنسان واللغة على مر التاريخ. فقد حاول الإنسان تطوير اللغة من خلال الدرس البلاغي إلى أن وصلت اللغة إلى حد استحوذت فيه على الإنسان، فأصبح جزءاً منها. وبذلك أصبحت اللغة خارج أنظمة التقعيد.

لكل تلك التساؤلات يرى بعض النقاد أن الأسلوب يكمن في الاختيار الواعي لأدوات التعبير ويرى بعضهم أنه عملية انتقاء واعية من اللاوعي. وهذا الاختلاف بين الكتّاب والنقّاد جعل الأسلوب أكثر غموضا، وجعل البحث في موضوعه أكثر تشتتا وتشويشا. فقد أُلف في هذا الموضوع أكثر من 2000 كتابا في 52 عاما ابتداءً من 1900 إلى 1952 .
ومعظم الكتاب توصلوا إلى أن الأسلوبية هي محاولة المبدع التحرر من سلطة اللغة المفروضة على المبدع من خلال قواعد اللغة المعقدة، والثورة على تلك القواعد التي تعطل الإبداع، ولم تكن هذه الثورة على مفردات اللغة بل على تراكيبها، ويدلل على ذلك الصراع الدائم بين النحويين والبلاغيين. فكلما تمكن المبدع من الخروج على القواعد كان أكثر تحررا، وهنا يجب التفريق بين خروج المبدع بشكل عام، وهذا يتعلق بالجمال والإبداع، وبين إمكانية الخروج عن القاعدة ومستوى ذلك الخروج الذي يعد من مهمات النقد.
 والفرق بين الأسلوب كمصطلح اشتقت منه الأسلوبية، والبلاغة يكمن في الأساس الذي نشأ عليه كل منهما. فهل أساس نشأة البلاغة العربية كان جماليا أم معرفيا؟ ولكي نصل إلى إجابة عن هذا السؤال علينا أن نأخذ البلاغة العربية على إنها علم البيان. والمعروف أن علم البيان يتناول موضوعات ( التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز) وأساس هذه الموضوعات هو التشبيه. والتشبيه قائم على تمثيل ما هو مجرد بما هو حسي والعكس غير مفهوم. وبما إن الشعر الجاهلي هو حسي بامتياز فلم تكن البلاغة عند الجاهليين غير التشبيه، إلا ما ندر.
أما بعد مجيء الإسلام وتغير مركز الكون عند العرب من الارتكاز على الحسي إلى الارتكاز على الغيبي. فقد تعرض التشبيه إلى إشكال : فمن غير الممكن تشبيه الحسي بالغيبي لان الغيبي فيه حاجة إلى تشبيه في الأصل. ومن غير الممكن أيضا تشبيه الغيبي بالحسي لان ذلك يوقع المشبه في التجسيد.
وقد بدأت معاناة المعتزلة عندما وجودوا أن الله يشبه نفسه بأشياء محسوسة ( وجاء ربك والملك صفا صفا) (ثم استوى على العرش) ( إنك في أعيننا) (يد الله فوق أيديهم)، وهذا يتعارض مع مبدأ التنزيه عندهم، فحاولوا إيجاد مبررات لتلك المشكلة ،حيث بدأوا بالتأسيس لعلم يخرجهم من هذا الإشكال. وهو علم البيان ، الذي تغير اسمه بعد ذلك إلى علم البلاغة.
ونخلص من هذا: بأن نشأة البلاغة العربية جاءت على أساس معرفي وليس على أساس جمالي، ثم بدأت تتطور جماليا.
وكذلك كانت نشأة البلاغة عند اليونانيين إذ قسمت عندهم على أربعة أقسام ( الابتداع أو البحث عن البراهين) و(الترتيب أو البحث عن النظام الذي يجب أن تكون عليه هذه البراهين) و(التعبير أو طريقة العرض لتلك البراهين بشكل واضح)و( الفعل الذي يعالج القصد كسرعة النطق والحركات وتعبيرات الملامح). ونلاحظ أن أقسام البلاغة عن اليونانيين كان معرفيا عقليا بعيدا عن الجمال، وهو إلى الخطابة اقرب منه إلى الشعر، والسبب في ذلك هو تعلق اليونانيين بالفلسفة المعتمدة على العقل، فضلا عن مسرحية النص عندهم التي جعلتهم يضيفون القسم الرابع إلى أقسام البلاغة، وتعلق هذا القسم بالمسرح واضح جدا. ومن هذا نخلص إلى معرفية نشأة البلاغة عند اليونانيين التي تطورت فيما بعد لتتخذ الجانب الجمالي الذي نسميه اليوم: الأسلوب. علما أن الأسلوبية المعاصرة هي فن لغوي وأدبي معا، بينما البلاغة فن أدبي صرف.
وكما كانت البلاغة تعرف بأنها: مطابقة كلام المتكلم لمقتضى حال المتلقي؛ فللأسلوب أقسام ثلاثة بحسب دائرة فرجيل الذي قسم الأسلوب إلى( بسيط و متوسط وسامي ) فالأسلوب المتبع ــ على مستوى المفردات ــ مع النص المتحدث عن الريف من النوع البسيط ومفرداته محدودة بالبيئة الريفية وهو يختلف جذريا عن النص المتحدث عن المدينة. أما النص المتحدث عن الطبقة العليا في المجتمع فيجده فرجيل ساميا من حيث المفردات والتركيب.
والتركيب أكثر تحديدا لنوع الأسلوب وسمته، فقد حدد بيرجيرو نوعين من التراكيب التي أسماها:(الصور)، النوع البسيط والنوع المعقد، وهذا ما نسميه في البلاغة بالإستعارة البسيطة والاستعارة المركبة، فكأن الاستعارات هي المحدد الطبيعي لسمة الأسلوب، ويرى بيرجيرو امكانية وضع جدول للاستعارات البسيطة كأن يكون المستعار:كذا، والمستعار منه : كذا، لكن هذا الجدول المقترح لا يمكن أن نحدده في الاستعارات المركبة التي لا حصر لها.
كما أن لجنس النص الأدبي علاقة وثيقة بتحديد نوع الاسلوب، فطريقة الكتابة في الشعر تختلف عنها في الرواية والقصة والاغنية، حتى ان بيرجيرو لم يفرق بين الجنس والأسلوب وعدهما بمعنى واحد.






07 سبتمبر 2012

الإستنابية: تحول دلالي؟ أم نفاق؟ أم انتهازية؟


كريم محسن الخياط
للوصول إلى المعنى الحقيقي لهذا المبدأ؛ لابد من الرجوع الى الماضي القريب ليتسنى لنا التدرج في تلقي إدراك المصطلح بتأني ووعي كاملين. وسأنطلق في توضيح المعنى من قول أحمد شوقي:
الاشتراكيون: أنت إمامهـم      لولا دعاوى القوم  والغلـواءُ
داويت متئداً وداووا طفرة     وأخف من بعض الدواء الداءُ
عقود من السنين لا يشوبها الحذر والخوف، والمسلمون يرنمون هذين البيتين من قصيدة (ولد الهدى) لأحمد شوقي، التي صدحت بها أم كلثوم، حيث كان أنصاف المسلمين يناقشون أنصاف الشيوعيين مدعين بأن الإسلام أبو الإشتراكية، إذ كان المد الإشتراكي يغزو الوطن العربي أبان قوة الإشتراكية السوفيتية التي أثبتت تقدمها على الرأسمالية الأمريكية، حيث كانت إنتصارات الحرب الباردة في خمسينيات القرن العشرين لصالح الاتحاد السوفياتي. وكان لفظ الديمقراطية في البلدان العربية يدل كل الدلالة على الفسوق والفجر والتهتك الأخلاقي، حتى يصل إلى حد الكفر، فقامت الانقلابات العسكرية- التي ادّعى فيها المنقلبون بانهم ثوار- في معظم البلدان العربية باسم الاشتراكية،  وكم تشدقت المذاهب الاسلامية الجديدة بأن مُثلهم العليا كانت تمثل الاشتراكية، فهناك من قال بأن عمر بن الخطاب أبو الاشتراكية، وهناك من قال بأن علي بن ابي طالب هو أبو الإشتراكية، حتى حسمت أبيات احمد شوقي ذلك إذ قالت بأن النبي محمد هو إمام الإشتراكية، ورغم أن أحمد شوقي قال ما قال في عشرينيات القرن العشرين إلا أن أم كلثوم جعلت المسلمين يعيدون قراءة النص بطريقة التفكيك قبل أن يكتشف ديريدا هذا المبدأ عام 1967 . وكم كان أنصاف المسلمين يحاولون إقناع الشباب بإسلامية الاشتراكية، وانها ليس جديدة، وما كان دور ماركس الا أنه قرأ حركة التاريخ وتوقع ذلك، وإن المبدأ الأساس موجود في القران. ولكي يتلافى أنصاف المثقفين محاولات أخماس المثقفين للفصل بين الإشتراكية والإسلام ابتدعوا مبدأ الإشتراكية العربية، فظهرت أحزاب كثيرة تدعي هذا المبدأ، وكانت مقبولة من قبل الأكثرية التي لا تفهم شيء سوى أن الإشتراكية لا تتعارض مع الإسلام.
ودارت الأيام، حتى بدأ الفكر الإشتراكي الذي يؤمن بالدكتاتورية ينهار أما الفكر الرأسمالي الذي يؤمن بالديموقراطية كنظام للحكم، فبدأ أخماس المسلمين بالتحول التدريجي نحو هذا المبدأ المنتصر، فقال من قال بأن عمر بن الخطاب هو أبو الديموقراطية، وقال من قال بأن علي بن أبي طالب هو أبو الديموقراطية، وظهرت الدراسات والكتب التي تؤكد على أن النبي هو المؤسس الأول للفكر الديمووقراطي الذي جاءه بالوحي، وبدأت القصص والروايات تُقرأ وتـُـفسر من جديد، لكي تتحول مضامينها- بلا خجل- من كونها اشتراكية الى كونها ديمقراطية بامتياز.
ومن هنا بدأت المحنة الجديدة للشعوب العربية، فقد آمن الإنتهازيون من المسلمين بالفكر الديموقراطي، معتمدين على تخلف شعوبهم التي انهكتها الأنظمة الدكتاتورية، وقد اطمأن الانتهازيون بان الغلبة ستكون لهم اذاما تخندقوا تحت راية الاسلام الذي هو أصل الديمقراطية كما يقولون، حيث ظهرت أحزاب كثيرة تحمل اسم الديمقراطية، وتمكنت هذه الأحزاب من استغلال غضبة الشباب على الأنظمة الاستبدادية، وكذلك استغلت تمسك الناس بالثوابت الدينية التي طُوعت للتماشي مع الفكر الجديد الذي غزا الارض العربية بعد الاشتراكية. وفي النهاية تمكنت هذه الاحزاب من الهيمنة على مقاليد السلطة في أغلب البلدان التي حدث فيها تغيير، وستهيمن أحزاب أخرى على البلدان الأخرى التي سيحدث فيها التغيير. وما أن سيطرتْ هذه الأحزاب على السلطة حتى بدأت الديموقراطية تنزلق من بين أصابعهم، فبدأت القوانين الدكتاتورية الاسلامية تظهر شيئا فشيئا، وبدأ تقييد الحريات يتفوق على المعنى الذي جاءت من أجله تلك الدعوات؛ لأن الذين وُضعوا على رأس هذه الأحزاب يدركون جيداً بأن الأغلبية متخلفة، وهذه الأغلبية التي أوصلتهم إلى دفة الحكم تؤمن بدين تراثي بعيد عن النفكير المنطقي وعن محاولة التغيير، وأن أي جديد يعد كفراً، لكنهم انخدعوا بمقولةٍ تدّعي أن الإسلام أبو الديمقراطية.
ورغم ادعاء القادة الانتهازيين للديموقراطية، الا أنهم الآن يخضعون- اجتماعيا وتراثيا- لرأي الأغلبية المتخلفة . فلو سألت أي من الديمقراطيين الإسلاميين عن مبادئ الديمقراطية لأجابك إجابة يدور فيها في حلقة مفرغة، لكي يتخلص من البون الكبير بين الإسلام والديمقراطية، فلو تعرض أي ديموقراطي إسلامي لسوآل مفاده: (هل يجوز للمواطن أن يشرب من خزان فيه  1000 لتر من الماء، وُضعتْ فيه قطرةُ خمر؟) لبدأ ( يفر بأذنه ويغني عليك بأنكر صوت)؛ لكي يتلافى التناقض الفكري بين ما يدّعيه وبين ما يدّعيه أيضاً، علما أن قطرة الخمر الموضوعة في خزان سعة 1000 لتر: لا تؤدي بالشارب من ذلك الخزان إلى ما يبرره هؤلاء الإنتهازيين، فهذا الماء لا يُسكر ولا يجعل شاربه يفقد أخلاقه ولا يؤدي الى التحلل الاجتماعي ولا إلى اي شيء سوى أنه يخالف تعاليم الاسلام الثابته، ومن هذا المثال ومن الأمثلة الكثيرة الأخرى التي لا تحصى، أجد أن الأسلام ليس ديمقراطيا، فالإسلام: إسلام، والديموقراطية: ديموقراطية، وكل منهما يسير باتجاه مختلف عن الآخر، فلا داعي للإختباء تحت سقف الإسلام للسيطرة على الحكم الديموقراطي، ولا داعي للإختباء تحت سقف الديموقراطية وإضمار الإسلام، لأن ذلك غاية النفاق. وسيثبت ما ذهبت إليه حينما يظهر فكرٌ آخر ينطلق من منتصرٍ آخر في العقود القادمة، وحينها سيدعي الإنتهازيون من الإسلاميين بأن الإسلام هو أبو الإستنابية. ويقول من يقول بأن عمر بن الخطاب كان أول من طبق الإستنابية، ويقول آخر بأن علي بن أبي طالب كان أبو الإستنابية. ويظهر لنا شاعر آخر في مرحلة ما بعد بعد بعد الحداثة ليقول:
((الإستنابية: كانت أدنى العرشِ
فهمها الملائكة
ورفضها أبليس
فاستقبلته الأرض...)).





04 سبتمبر 2012

التفكيكية: لمن لا يحضره الفقيه



كريم محسن الخياط

لو أغمضت عينيك وركزت قليلا ثم تأملت كلمة واحدة فقط، كأن تكون هذه الكلمة:( ثورة) فماذا سوف يريك ذهنك وأنت ما تزال في حالة التأمل؟ فمن المؤكد سترى أماكن مزدحمة تعج بالشباب، ورغم أن ذهنك سوف يبتعد عن كبار السن إلا أنك ستراهم حيث يقفز ذهنك إلى نهاية الثورة لتراهم كيف يستولون عليها، ثم يعود ذهنك إلى مسرح الثورة لترى قليلا من الفتيات وهن يهتفن لرحيل الرئيس، ثم يقفز ذهنك ثانية لترى الذين مولوا الثورة كيف يبتسمون في قصورهم بالرغم من سقوط الضحايا الذين رأيت أنت دماءهم الحمراء التي أحالتك إلى لون الورود التي تحملها الفتيات، فإذا استمر تأملك تجد كل معنى انفكّ عن كلمة الثورة يحيلك إلى كلمات كثيرة، كل واحدة منهن تحيلك إلى كلمات كثيرة أخر. وهكذا تستمر الإحالات إلى ما لا نهاية.
ولنفترض أن السيد الرئيس كان يجلس في صومعته واضعا يديه على عينية ويتأمل كلمة الثورة مثلك، فما الذي سيراه؟ فمن المؤكد أنه سيرى مجموعة من الإرهابيين الحمقى الذين يريدون تخريب البلد واغتصاب الشرعية، وسيبتسم عندما يرى طائراته تدك معاقل الإرهابيين، لكنه لا يرى الورود الحمراء بأيدي الفتيات اللائي يبتسمن للسماء بينما هن يتعرضن للقصف.
ولنفرض بان هناك عشرات من المتأملين المختلفين في الرأي والأمزجة، فمن المؤكد أنهم سيرون عشرات بل آلاف من القصص المشتقة من كلمة واحدة، وهي: الثورة.
فالكلمات التي يمكن أن نشتقها من كلمة ثورة يمكن أن تكون: (شجاعة، تمرد، إرهاب، جبن،  ازدحام، بطالة، غضب، جوع، شارع، خطابة، شعارات، زيف، موت، حياة، سلطة، انتخابات، تزوير، صندوق، أصوات، سرقة، رشاوى، عمائم، عزائم، ...) فالكلمة المولـّـدة من الكلمة الأولى هي مرحلة بين كلمتين، ولنطلق عليها مصطلح:(بينية) والبينية هي مرحلة متقدمة على سابقتها لكنها- في نفس الوقت- متخلفة عن لاحقتها. وقد تكون (البينية) مرادفة للكلمة الأولى أو مطابقة لها أو مناقضة لها أو تربطها بها علاقة تحددها أنت، كتلك الاستجابة الشرطية التي ربطت بين الطعام ورنين الجرس عند بافلوف، وقد يكون الترابط بين الكلمتين خاصا بك وحدك كعلاقة الدمعة بالزورق لمن قرأ قصيدة الطفل والنهر في طفولته. وقد يكون لصوت الكلمة اثر بالغ في إحالتك لكلمة أخرى مثلما يحدث في الجناس التام والناقص.
مما تقدم: تستطيع القول بأن الكلمة بلا معنى ثابت، وهي ليست دالا على مدلول ثابت راسخ في الذاكرة الجمعية كما قرأتَ في كتب البلاغة العربية. فأي كلمة ممكن أن تحيلك إلى كل مفردات اللغة وإلى كل معانيها. ومن هذا يتبين بأن اللغة قاصرة عن إيصال المعاني، لأن المعاني الحقيقية الثابتة ليست موجودة إلا في قواعد البلاغة القديمة، أما المعاني التي نتوصل إليها فعلا، فهي موجودة في ذهن المتلقي، والمتلقي هو الوحيد الذي يستطيع إدراك المعنى الذي يخصه. فلكل متلق معناه الخاص المتأتي من إحالاته الخاصة.  
ألا ترى بأنك عندما تقرأ كتابا ما، بأن كلمةً ما لها قابليتها على التفكك والتشقق والإنقسام، تأخذك بعيداً عن موضوع الكتاب، وقد يستمر ابتعادك عن الكتاب لساعة أو أكثر. وأحيانا يحدث لك قبل النوم ما يشبه التأمل، فتفكر في قضية ما ثم تنطلق من كلمة ما في القضية تحيلك إلى كلمة أخرى أو فكرة أخرى ثم تسترسل في الإحالات حتى تصل إلى قصة تراها بعيدة جدا عما كنت تفكر فيه؟ حتى أنك تتساءل أحيانا كيف وصلتَ إلى هذا الموضع؟
كل ذلك يحدث لك-أحيانا- انطلاقا من كلمة واحدة، فماذا يحدث إذا تأملتَ نصا كاملا بنفس الطريقة؟
هذا ببساطة ما أراد ديريدا أن يقوله عندما أسس مبدأ التفكيك.
إذ يرى ديريدا أن في كل نص تناقضات ونواقص وأفكاراً غير مكتوبة، فإذا تمكن الناقد أو القارئ الجيد من اكتشاف التناقضات وإكمال النواقص وقراءة الأفكار غير المكتوبة؛ فسيكتشف بالتالي أن النص يعبر عن أفكار تختلف كليا عما أراده الكاتب، فالنص في رأي ديريدا لا يعبر عن موضوع موحد مثلما ترى البنيوية، وإنما عن أفكار كثيرة، ومن تلك الأفكار ما يخادع الكاتب ويحطم نواياه الواعية أثناء الكتابة. وهذا الرأي يدفعنا للقول بان ديريدا استفاد كثيرا من آراء فرويد في نظرية التحليل النفسي، كما استفاد أيضا من نظرية المادية الديالكتيكية لكارل ماركس، ويمكنني القول بان ديريدا اسقط مفاهيم النظريتين على الأدب.
كما انه عمم رؤية فردناند دو سوسير عن عدم وجود معنى للحرف المنطوق الذي يؤدى إلى عدم وجود معنى للكلمة المنفردة.
فكل تلك النظريات تؤمن بوجود غموض سواء في النفس عند فرويد أو الكون والحياة عند ماركس أو أصل اللغة عند سوسير، فالنص منفصل عن الكاتب، إذ للنص روايته الخاصة التي تختلف عن الرواية التي يتصور الكاتب أنه مبدعها
إن ما ذكرناه يظهر في القراءة الأولى للنص، أما القراءة الثانية فهي تختلف عن القراءة الأولى حيث يظهر لنا نص جديد، أي أن النص الأول مفكوك عن الكاتب، والقراءة الثانية مفكوكة عن القراءة الأولى، وهكذا يستمر التفكيك إلى ما لا نهاية من القراءات. والقراءة الثانية للنص هي:(بينية نصية) أو (بينصية)، فالبينصية مرحلة متقدمة عن النص الأول الأصل، لكنها متخلفة عن القراء الثالثة للنص.ومعنى التخلف والتقدم هنا يفيد الترتيب، إذ ليس المقصود به أن تكون القراءة الثانية أفضل من الأولى.
ومن هذا نخلص إلى أن ديريدا يهزأ بالبنيوية التي ترى أن للنص معنى يمكن اكتشافه وتوضيحه، وأن كل أفكار النص مرتبطة ببعضها كبنية واحدة، ويعد هذه الآراء ساذجة أمام مبادئ التفكيك.
فليس للنص في نظر التفكيكية معنى يمكن اكتشافه، ولا يمكن للنص أن يطرح معناه مرة واحدة، لذلك ركزوا أكثر على ما يمكن أن أسميه: (الطباق المنفرد) أي: محاولة قراءة الطباق بغياب أحد طرفيه، فإذا ذكر الكاتب كلمة (الحق) في نصه فان ذهن قارئ ما، لابد من أن ينصرف إلى (الباطل) أو ينصرف ذهن القارئ ذاته في قراءة ثانية إلى (الظلم) ثم في قراءة ثالثة ينصرف ذهن القارئ ذاته إلى الفقر باعتباره باطلا أو ظلما، فالمعنى الحقيقي لكلمة الحق الواردة في النص موجود في ذهن المتلقي الذي يستمد تفسيراته من الحالة التي يكون فيها ومن تأثير المحيط الثقافي والاجتماعي. وليس (الطباق المنفرد) وحده الذي ركز عليه التفكيكيون، بل عدوا التفكيك بمثابة إعادة تركيب من إزاحة معنى الكلمة عن معناها الموضوع لها، سواء كانت تلك الإزاحة فوقية أم تحتية، إذ يمكن أن يكون معنى (الود) (حبا) والعكس صحيح، وهذا ما يطلق عليه اللغويون مصطلح الترادف. وما ينطبق على(الطباق المنفرد ) وعلى الإزاحة يمكن تعميمه على كل ثنائيات اللغة التي تخص المعنى كالمقابلة والتضاد. وعندما نفك طرف الطباق الغائب عن المكتوب فسوف نخل بالتسلسل الهرمي للنص، ونخرج معناه عما أريد له في أثناء كتابته، والإخلال بالتسلسل الهرمي للنص هو هدم للمبادئ البنيوية التي ترى أن أفكار النص مترابطة ترابطا عضويا. ولم يكتف التفكيكيون بهذا، حيث لعبوا لعبة  اكتشاف العلائق البسيطة بين الكلمات التي تجعل كل كلمة تحيلنا إلى كلمة أخرى، والكلمة الأخرى تحيلنا إلى كلمة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية من الإحالات التسلسلية والتشعبية، حيث يمكن استنباط كل مفردات اللغة من كلمة واحدة بحسب قابلية المتلقي على الإستنباط،فربما يستمر المتلقي في تأمل كلمة واحد لدقائق وتكون تلك الكلمة نصاً كاملاً مفكوكاً عن النص الأم.  ومن هنا يتضح بأن النص الجديد المتأتي من خلال قراءة النص الأول هو من خيال المتلقي، فالكاتب الأول وضع لبنته الأولى، واستمر المتلقون في محاولات بنائه. ويتم هذا البناء من خلال ثقافة المتلقي التي تؤهله لاكتشاف الجزء المفقود من النص، كالسبب والنتيجة، والتقابل والترادف والطباق المنفرد وغيرها من العلاقات المعروفة.  
 ومن هنا نجد أن المعنى والنص يسيران في اتجاهين مختلفين، فما موجود في النص لابد من أن يؤدي إلى سوء فهم، وسوء الفهم هذا يتضاعف بكثرة القراءات، ثم يؤدي بالتالي إلى غياب المعنى، أي أن النص لا يقول شيئا مفهوما. وقد جاء هذا الرأي بأثر مضاد، لأن التفكيكية وقفت بالضد من مدرسة النقد الجديد التي ركزت على النص، فالتفكيكيون يؤمنون بانفصال النص عن المعنى. وهذا الانفصال هو ذاته الذي عبر عنه النقاد العرب القدماء بانفصال اللفظ عن المعنى، والذي أثار جدلا كبيرا عند الجاحظ و قدامة بن جعفر وابن طباطبا وابن قتيبة متأثرين بآراء المعتزلة والأشاعرة في هذه القضية.
فالنص عند التفكيكيين يتحدى المؤلف ويسيطر على معانيه الظاهرة ويشظيها،  كما أن النص يفسد معنى النص! ولا يستطيع المؤلف أن يساير مبادئ التفكيك لأنه مهما فعل فإن فعله يبقى واقعيا واعيا، وهذا يجعل التفكيكية نظرية نقدية، فلا يمكن لأي مؤلف أن يستفيد من مبادئها في الكتابة باعتبار كون نصه ــ من وجهة نظر التفكيكية ــ خارجا عن سلطة المؤلف في كل الأحوال. فالنصوص تتضاعف ذاتيا من خلال انقسامها الطبيعي أثناء القراءات بسبب احتوائها على مقولات غير واعية وتناقضات تختلف عن تلك التي كتبت من اجلها. وتظهر المعاني الجديدة من خارج النص لا من داخله، فالمعاني موجودة خارج النص، وهذا الرأي جعل التفكيكيين يحطمون مركزية الكلمة، فلا معنى واضح للكلمات عندهم مثل الحق والعدل والإيمان والانتماء، فكل تلك المعاني موجودة في العقل الجمعي ولا يمكن لأي كلمة احتواؤها بالرغم من محاولات الكاتب في أن يوجد علائق بين الكلمات لتوضيح المعنى، فالمعنى مستقل خارج النص ولا يمكن أن ينتمي إلى نص ما، ولا تعد محاولة الكاتب إلا محاولة فاشلة يائسة بوعي كامل لاحتواء المعنى.