كان صديقي يجلس في مقدمة السيارة التي تحاول اختزال الزمن للوصول الى مرفأ لم يكن يحمل هذا المعنى قبل سنة من ذلك التأريخ، لكن المعاناة جعلت من صديقي يعده فردوسه المفقود. كانت حركة رأسه تتناغم مع اهتزاز السيارة حين عادت به ذاكرته الى الأيام التي سبقت هذه المغامرة. تلك الأيام التي قضاها شبه مشرد بين فنادق بغدادية بائسة تضج برائحة الثوم وصابون الحصة التموينية وبين الفلوجة التي يعدها ملاذا شبه آمن وهي تنام هادئة على جرف الفرات، وبين بعض زوايا بغداد التي لم تعد مخبأ له، باحثا عن لحظة هادئة يتأمل فيها المستقبل وما يخفيه له. أحيانا يريح جسده على احد كراسي سينما سميراميس ليشم نسيما باردا ممزوجا برائحة لا يتذكرها، فيغفو كبقية الأدباء الذين ما فتئوا يمارسون النوم في الأماكن المزدحمة. ويكاد أيلول عام 1999 يفتك بصديقي لولا أنه كان يحتمي بدندنات تطارده، مخترقة جدار ذاكرته شبه العارية، مناجيا الندى الذي يكاد تذكره يفكك روحه و يشظي معانيه التي تحاول اقتناص لحظة آمنة بين جدوى الحلم وقسوة الماضي:
(أيلول عاد فهلا كنتِ أيلـــــولا
يا آخر الحب يا تفاحتي الأولى)
كانت قصيدة أيلول آخر قصيدة له قبل رحيله عن معناه، لكنه أضاف لها مقطعين قديمين ليقول إنه ما زال مرتبطا بتاريخه، بماضيه، بذكرياته. كان يتجول كثيرا في أزقة بغداد الضيقة التي تشعره بشيء من الطمأنينة؛ ليمسح ذاكرته المرتبكة بعطر أنفاس أماكن سيتركها ويترك معتقله الكبير الذي قال فيه ذات مساء :
(ويا بيتنا: كل الجهات خيانـــــة
إذا بات وجهي عند بابك مهمـلا
وهل ثم سقف تحت ضوئك ندعي
بأن ّ لنا في ما يـُؤمل مأمــــــلا ؟)
لم تكن تلك لحظات يمكن معها اتخاذ قرار بلا غضب، ولم تكن المقارنة متكافئة بين الرحيل والبقاء، لكن الحب الكامن في نفسه لبغداد كان يجره من حلمه المتدلي على أرصفة اليأس ويدكّه في إسفلت شوارع الرهبة التي مازالت تدعي أنها حبيبته التي لا تغادر حتى لو أمكنها ذلك. وحين تمكن من تخليص حلمه من مخلب الإسفلت؛ اتخذ قراره، فلطالما :
( سعى بين ليلى والرسوم فلم يجد
لليلى التي خلف الرسوم تـــــمثلا
فقال هنا قلبي وتلك قطيعتـــــي
و ذيّاك ظلي كم بدا مترهــــــلا )
أوشك ان يقتنع بالرحيل، لكن طيفا مازال يجذّر قدميه في الأرض، يحدثه عن اصدقائه و أهوائه حديثا كاد يقلب كل معادلاته ويبقيه خارج الفكرة التي تمالكته، وكاد يجزم بأنه قرار لا رجعة فيه. فانتظر الوعد المقطوع بينه وبين الصبح، وظل ينتظر لأيام، لكن الصبح لم يعد، وحين لم ير ذلك الضوء الموعود في أحد دهاليز أنفاقه المتشابكة؛ راودته صرخة مكتومة:
(وحدي احتملتكَ قلتَ الصبح موعدنا
وجئتُ صبحكَ لم أبصرْ به أحـــــــدا )
حزم ذكرياته، فقد كذب الموعد، ولم يبصر صباحات مدنه النائمة على نكبتها الأولى رغم تجذّر الألم الذي كان رفيقا تعودت عليه أكواخ قاعة حوار، وكرويتات حسن عجمي المتأرجحة، وشاي أبي داود العتيق، وكتب صباح جبرائيل المهترئة، وأعمدة شارع الرشيد، ودهاليز منتدى المسرح، وجسر الشهداء الذي يشير الى جواد الحطاب، وسدرة أبي نؤاس الحانية على أحمد المانع، وأرصفة شارع السعدون، وكراسي سينما سميراميس، وفخاخ حديقة اتحاد الأدباء. تلك الذكريات التي تمتد مع جرف دجلة الذي:
(كان يبكي وليس يدري لماذا
ويغني ولا يحس التـــــــــذاذا
وينادي يا ذاك.. يصغي لهــذا
وهو ذاك الذي ينادي وهــــذا
لا يعي من دعا، ولا من يلبي
كان في صوته يلاقي مـــلاذا)
ومثل ذلك البصير البائس الذي أتعبه وطن قيل عنه انه سعيد حينما رنا إلى أغرب القرارات؛ قضى صديقي عشرين يوما من التأمل والحزن الذي نبتت له مخالب كادت تنهش شاعريته وتبعثره على ارصفة البقاء، كما تبعثر البردوني على متاهات القصائد الناتئة في سفن بثقوب ليست كبيرة، فأراد أن ينهار طوعا لينقذ نفسه من ترقب الانهيار، لكنه لم يشرب حليب غباره، فقد رتب بعض أوراقه وبعض ذكرياته وحزم رأيه ودندن:
(أن أتبعثر على أرصفة المنفى، أفضل لي من أن أتبعثر على أرصفة أعرفها، أعشقها، أحلم بدفئها ذات يوم، قال لنفسه وفقد تركيزه.
عندما اقتربت المغامرة من اجتياز مرحلتها الاولى وبدت له سفوح أيام مجهولة جديدة تحط على سفوح جبال السليمانية، التفت إلى الخلف خوفا و رهبة، و بصوت يقترب كثيرا من الانين كان صديقي يدندن بحزن بنفسجي :
رحيلك عن معناك قتل مؤولٌ
أعنّي على أن لا أراه مـــؤولا
رحيلك عن معناك قتل مؤولٌ
أعنّي على.
ـ (دكتور حامد) ؟! ناداه السائق وهو يقف قرب مكان يبدو رصيفا
ـ (ها، وصلنه) , قال حامد الراوي وهو يهم بالنزول، أو ربما ينزل بالهموم. فقد كانت الطرق محدبة ومتشعبة قد يؤدي بعضها الى بعضها الآخر. نزل من السيارة وهو يدندن بحزن ملون:
مشى في سهاد الوقت عمرا معطلا
ومـــــسَّ نهاراً آمناً......فتغــــــزلا
وعند حدود اللون آوى فراشــــــهً
وأنبت في ثغر الوشايات جــــدولا
درى أن ّ عمر الحب عمرٌ معجلٌ
سيـُطوى غداً أو بعدهُ ...فتعجـــلا.
Sal_am_74@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق