مما يثير الاحتمالات والجدل في مختلف القضايا الإبداعية في الفكر العربي هو عدم إمكانية تحديد أولية الإبداعات، فكثيرا ما نجد اختلافات كثيرة في تحديد أولية المنتج الإبداعي، ابتداءً من أولية الشعر إلى أولية النثر الفني وكذلك أولية النقد والموشحات ووو... وكل ذلك يشير إلى أن الأعمال الإبداعية العربية لا تأتي فردية، إنما تتشكل تدريجيا عن طريق الجماعة المبدعة، وهذا يدل على أن الفكر العربي فكر جمعي. والدلائل على ذلك كثيرة، إذ لا احد يستطيع تحديد أول شاعر ولا أول ناقد ولا أول من أوجد الموشح. ولا حتى أول من أوجد شعر التفعيلة، ورغم محاولة الدارسين حصر مجموعة من المدعين، والقول إن العملية الإبداعية تمت بواسطة أحدهم؛ إلا إننا نجد دارسا آخر ينفي كل ما قالوا ، وكلٌ له أدلته ووثائقه.والغريب في هذا الشأن أن الاختلاف وصل إلى أعمال إبداعية لم يتجاوز عمرها العقدين، وأن مدعي الأولية كلهم أحياء، والشهود على الحدث الإبداعي أغلبهم أحياء، كالاختلاف على أولية من أبدع قصيدة الشعر التي أثارت جدلا كبيرا بين مجموعة من الشباب الذين أسسوا لهذا النمط في تسعينيات القرن الماضي. وما زال الخلاف قائم بين محمد البغدادي وعارف الساعدي وفائز الشرع وبسام صالح مهدي ومشتاق عباس، وكذلك نوفل أبو رغيف. ورغم صمت مضر الآلوسي وعدم إثارته للموضوع إعلاميا؛ إلا إنه لا يقر لهذه المجموعة ما تقول على اختلاف آرائها، فصمته يعني أنه الأول. فضلا عن وجود شعراء ادعوا أنهم أول من كتب قصيدة الشعر قبل التنظير لها. وللوقوف على سبب هذه الخلافات على مر التاريخ، أجد أن الحالة الإبداعية العربية تعتمد الفكر الجمعي، بسبب عدم وجود مبدع حقيقي يستطيع أن ينتج العمل الإبداعي وحده، لذلك نجد الفكرة تنشأ جماعيا تم تبدأ بالتطور من خلال النقاش الودي أولا، ثم بعد ذلك تصل إلى مرحلة قريبة من الصلاحية للظهور والانتشار، وهذه المرحلة: تكاد تكون مرحلة وضع اللبنات الأولى للكمال والشقاق معا. فكلما اقتراب التأكد من أن الفكرة اكتملت نجد الشقاق والاختلاف يبدأ بالنمو داخليا بين أفراد المجموعة التي تصدت للحالة الإبداعية، وكلما أخذت الحالة الإبداعية بالانتشار؛ أخذ الاختلاف ينتشر أيضا بذات الحجم. وهذا التناسب الطردي بين انتشار الحالة الإبداعية والاختلاف على أوليتها يبقى مستمرا. والعكس صحيح، فإذا ما ثبت فشل المشروع، واقتنع مؤسسوه بهذا الفشل نجد تناسبا طرديا بين تأكد الفشل و التنصل من أوليته . فمن خلال الاختلاف على أولية قصيدة الشعر نستطيع أن ننظر إلى الماضي ونحلل أحداثه لنجد عدم الاتفاق في كل القضايا الأدبية والعلمية. ومن جانب آخر نجد أن الحالات الإبداعية الغربية تظهر دون وجود اختلافات كبيرة حول أول من أبدع الحالة وأوصلها إلى ظاهرة، فلا يختلف اثنان على اينشتاين كونه أول من أوجد النظرية النسبية، ولا يختلف اثنان على أن فرويد هو رائد التحليل النفسي، كما لا يوجد اختلاف حول من اوجد قانون مندل الذي سمي باسمه، ولا حول نظرية النشوء والارتقاء التي ما أن تذكر حتى يذكر واضعها دارون.ولا حتى على مدام كوري التي اكتشفت الراديوم. وكل ذلك يشير إلى أن الفكر الغربي فكر فردي وان الفكر العربي فكر جمعي، وإذا توصلنا إلى هذه النتيجة، فان ما يترتب عليها : هو إقرارنا بعدم وجود أولية للفرد في الحالات الإبداعية العربية في الغالب، وخاصة الإبداع الأدبي. وإذا تمكنا من الإقرار بذلك؛ فالأولى بنا أن نجدّ السعي في اتجاهين مختلفين، الأول: هو الإقرار بأولية الجماعة الذي سيترتب عليه الخروج من الحديث عن التاريخ، والاتجاه إلى ممارسة الفكرة وتنميتها بروح جماعية لخدمة العملية الإبداعية التي تصب في خدمة النفس والمجتمع. والثاني: هو أن نؤسس لمبادئ فردية تعتمد الكتمان والجهد البحثي الفردي السري، لكي تثبت أولية العمل الإبداعي ومن خلال مؤسسات ترعى هذا العمل ولا تسأل عن تفاصيله ونتائجه إلا بعد اكتماله.فإذا تمكنا من السير بأحد هذين الاتجاهين؛ فإننا بالتأكيد سنصل إلى طريقة تبعدنا عن الانشغال بالخلاف حول الأولية لصالح الممارسة الإبداعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة العراق اليوم
تحليل صحيح
ردحذفشكرا استاذ كامل
حذفابداعك ليس له حدود ((ارجو ان لا تكون قد نسيتني ""حيدر محمد""))
ردحذفملاحظة صغيرة جدا مدام كيوري مكتشفة عنصر الراديوم وواضع الجدول الدوري هو مندلييف
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفشكرا استاذ كامل
ردحذف